انحدرت دمعة حرى من عيني الشيخ سعيد ،وهو يقبع في زاوية مظلمة في إحدى الغرف في منزله الريفي الموجود في إحدى قرى القطاع المحتل الشيخ سعيد يربو عمره على بضع وسبعين سنه .
ذلك المنزل لم يبق فيه سوى هذه الغرفة وأخرى قد تساقط سقفها
بعد أن كان يضم عشر غرف بما تحوي من أثاث فخم ورياش جميل,إضافة إلى حديقة أشبه ماتكون بالمزرعةبها كل أنواع الأشجار المثمرة من الزيتون والبرتقال والرمان وغيرها من أشجار طيبة .كان الشيخ عندما تموت شجره منها أو تصفر يرى أن شيئا من كيانه قد هدم .
سبب دمعة الشيخ ذكريات الماضي بما يحمله من أحداث في أيام الشباب قبل أن يدنس العدو الأرض وفي أيام الحرب ومنذ دخول الاحتلال وحتى الآن.
عندما شعر الشيخ بخطوات تقترب منه بادر بمسح دمعته وحاول الوقوف شعر بيدا حانية تمسك به وهو يسمع صوت ابنه –الفدائي –عمار يقول له: استرح ياوالدي فما جئت لأتعبك أو أزعجك .
مالي أرك حزينا والدمع يجري من عينيك رغم محاولتك منعه من الانحدار .
قال الأب بصوت لا يكاد يسمع : هي الذكريات والحاضر يابني
مسح عمار دمعة والده بيده وقال له:يا أبتي لا أريدك أن تقلق أو تذرف دمعة واحدة ونحن الفدائيون لا يفل لنا عزم مهما حاول العدو اللعين ذلك.
وها انا ذا ومجموعة من زملائي الفدائيين نستعد للقيام بعملية جريئة تستهدف محطة كهرباء كبيرة جدا سيخسر العدو بسببها ملايين الشيكلات .
ولا أريد منك يا أبت ِسوى الدعاء وسوف اترك أولادي نضال وفداء وأمهم في رعايتك فربما لا أعود.
عندها بكى الشيخ بصوت مسموع وقال لابنه :اذهب بابني في حفظ الله وسوف ادعوا بكل جوارحي أن يكون الله معكم ويسدد خطاكم .
ودع الابن أباه وارتدى ملابس الفدائيين واتجه خارجاً والأب مازال يذرف الدمعة تلو الدمعة .
وفي المساء جلس الشيخ إلى أحفاده –نضال في الخامسة عشر-أما فداء فهي لا تزال في التاسعة في ذلك الوقت .
مضى أبوهم في طريقه بعد أن ودعهم .
تحلق الجميع حول مائدة العشاء مع جدتهم العجوز التي آثرت البقاء بعيداً أثناء الوداع .
’كانت المائدة لا تتعدى حبات من الزيتون والخبز الناشف وقليلاً من اللبن.
بعد الانتهاء من العشاء جلس الجميع إلى الجد يحكي لهم مشواره مع النضال ـفهذه فرصتهم فهم يقطنون بلدةٌ أخرى وربما يأتي والدهم قريبا لأخذهم .
بدأ الشيخ حكايته بقوله:عندما كنت في مثل سنك يانضال وفي صبيحة ذلك اليوم وانأ في المرج أرعى الغنم إذا بالدبابات والمدافع والطائرات تسد الأفق, تدفع أمامها الدمار وتنشر الرعب لا يهمهم شجر مثمر أو منزل عامر أو حتى شخص عابر.
يهدمون ويقلعون ويقتلون شعارهم الإفساد لا يجدون سلوتهم إلا في التدمير والخراب , عندها يا أولادي وقفت مكتوف اليدين .
فماذا افعل وأنا في مثل هذا السن .؟
لم أجد وسيلة سوى الرجوع إلى المنزل ’وعدت وليتني لم اعد ,عدت لأجد منزلنا اثر بعد عين ,سالت عن والدي قيل لي :أن والدي لا يعلم مصيره ,ووالدتي قد ووريت الثرى . بقيت وحيدا افترش الأرض والتحف السماء .
همت على وجهي لا ادري ماذا افعل !وذات يوم وأنا جالس تحت ظل شجرة إذا برجل يقترب مني وسلم وجلس .
وقال لي : إلا ترى بابني ماذا فعل بنا العدو الغاصب ؟ فهل تمضي معي للجهاد؟وهذا خنجري خذه وسوف ابحث عن آخر .
قمت في حيني وأنا بكل نشاطي وفرحتي بهذا العرض الذي يشفي غليلي ويمكنني من الثار لامي وأبي الذي لا اعلم مصيره كما أسلفت.
مضينا وقد عقدت العزم على إلا أعود حتى اقتل ولو جنديا واحدا ,من هؤلاء الصهاينة .
هجمنا في منتصف الليل على قافلة من الجنود فقتلنا أربعة منهم اشتد العراك بيننا وتكاثروا علينا طعنو رفيقي واردوه قتيلاأما أنا فقد ارجأوا قتلي حتى الصباح,لأنهم يريدوا أن يتسلوا بقتلي كما قالوا.
وربطوني بحبل إلى احد الأشجار.في تلك الليلة هبت عاصفة قوية جدا فاقتلعت الشجرة التي كنت مربوطاً إليها ,وعندها سارعت إلى الهروب من براثنهم.فكما تعلمون الكثرة تغلب الشجاعة.هربت فلم اجد أمامي سوى بئر مهجورة فاختفيت فيها .
هل تعلمون يا أولادي كم يوماً بقيت حتى لا يعثرون علي ؟ لقد بقيت يومين لا آكل ولا اشرب فكدت أموت جوعاً ,وفي ضحى اليوم الثالث خرجت لأجد نفسي في إحدى القرى البعيدة التي لم يصل إليها العدو بعد, ذهبت لأول منزل رايته فوجدت شيخا هرما قد عضه الزمن بأنيابه,ولديه فتاة لم تتجاوز الرابعة عشر.
استضافني وأكرمني بقيت عندهم .كان الشيخ مصابا بمرض خطير ومتوقع الموت في اي حين وذات يوم قال لي :بابني كما ترى حالي وهذه البنت التي تراها بنت ولدي الذي مضى للجهاد وتركها في رعايتي ولست ادري متى سيعود أم انه لن يعود أبدا ًفلم اعلم عنه شئ منذ ذهابه.
عندها سألته عن أوصافه وسألته عن اسمه ,فقال لي :أن اسمه ياسر وقد مضى منذ ثلاثة أيام .
عند ذلك أدركت انه رفيقي الذي قتله العدو منذ يومين.فقلت له رحم الله ابنك يا:عم وأخبرته انه قتل أمامي واستطعت أن افر وأنجو بنفسي ,عندها سالت من عيني الشيخ دمعة صامته وهو يدعو لابنه بالرحمة,مرت الأيام وأنا لديهم وذات يوم سألني الشيخ عن اسمي واسم والدي فأخبرته وظهر له من خلال ذلك انه يعرف والدي أيام طفولته عندها انحدرت من عينه دمعة وامسك بيدي وقال لي أريد ك في أمر مهم اسمع يابني :سوف أزوجك ابنته, فستكون خير من يرعاها بعدي, فأنا اشعر بدنو اجلي ,وتزوجتها وهاهي ذي التي ترونها إمام أعينكم , بعد شهر توفي الشيخ إلى رحمة الله وبقيت في تلك القرية حتى مضت أربعة عشر سنة أنجبنا خلالها أعمامكم اللذين ذهبوا فداءً لفلسطين ولم يبق معي سوى والدكم .
وفي يوم من الأيام ذهبت للمشاركة في عملية فدائية ذهب بصري خلالها وبقيت كما ترون فاقد البصر لا استطيع عمل شئ .فلو كنت قادراً على الجهاد هل اقعد؟ والله لا اقعد مهما كان.
أوشك الليل أن ينتصف والشيخ لم يزل يحكي لأحفاده مشوار النضال .وفيما هم كذلك سمعوا قرعاً على الباب كادت قلوب الأطفال أن تنخلع من شدة الطرق ربت الشيخ على كتفي أحفاده اللذين هبوا إليه مذعورين ,وقال لهم :تجلدوا ولا تأبهوا بهؤلاء الشرذمة فانا معتاد على مثل هذا وأريدكم ألا تخافوا من ذلك.
فستكونوا غدا مناضلين وفدائيين في سبيل الله ثم الوطن .
قامت جدتهم العجوز لفتح الباب ركلها صهيوني برجله فسقطت على الأرض .وما لبثت أن استوت قائمة وهي تقول ماذا تريد؟
قال لها : لماذا تشعلون مصباحكم إلى الآن ماذا تدبرون في هذا الليل ؟
قالها بنبرة تجلجل أصدائها في الحجرة.
عندها قام نضال من مقعده سترون ماذا سنفعل غدا إن شاء الله .
وجف الصهيوني من كلمات قالها صبي ,وقال له ماذا ستفعلون ونحن لكم بالمرصاد وقهقه في خبث وخرج.
قال الشيخ لأحفاده هل تعلمون لماذا مر في هذا الوقت انه يريد أن يقلق راحتنا فقط إنهم لا يريدون أن نرتاح ولو لحظة واحدة ,يريدون منا أن نخرج من بلدنا ولكن هيهات أن نخرج من أرضنا إلى سواها وجوفها خير من جنات غيرها .
قال هذه الكلمات التي شعت كالنور الذي أضاء لأحفاده .وفيما هم كذلك وفي وقت متأخر أظلمت المدينة بكاملها .عندها أدرك الشيخ أن ابنه وصحبه قد نفذوا العملية, فحمد الله وأثنى عليه وقال لأحفاده :ابشروا فإن أباكم قد نجح .
تبسم الشيخ في حزن وقال : "بالروح بالدم نفديك يافلسطين ".
وعندما أشرق الصباح اخذ الأطفال الحجارة في أيديهم مرددين هتافات النصر مع مجموعة من رفاقهم واخذوا يقذفون اليهود بكل بسالة .لكن ماذا تفعل الحجارة البسيطة أمام تلك المعدات؟
لكنها في ميزان البسالة تعني الكثيروهي مدادلرفع معنويات المناضلين.
و تمر الأيام ولم يعد الابن وبقي الجميع في الانتظار الذي راحت ضحيته الجدة العجوز من شدة الحزن ,لقد خرج مجاهدا ولم يعد وقد علموا بعد ذلك انه قتل في تلك العملية الجريئة.وذلك عندما جاء العدو كعادته لهدم منزل أي فدائي وقتل أو اسر أفراد عائلته بحجة التستر عليه أو مساعدته في النضال.
فالجاني مظلوم والمجني عليه هو الجاني في قانون بني صهيون.
لم يتورعوا عن هذين الطفلين الصغيرين فامسكوا بهم واعتقلوهم, مات نضال جوعا أما فداء فقد ماتت متسممة فلم يعطوهم إلا الأغذية المسممةوالمنتهية .
بقي الشيخ كما كان أول الأمر وحيداً دامع العينين ,لكن الفرق أن الدمعة الأولى لذكريات الصبى واليتم والتشرد ,والدمعة الثانية أباً محروماً وجداً مفجوعاً
.لكن دمعته في كلا الحالتين دمعة حرى